ملخص كتاب إقتصاد الكفاية

ملخص كتاب إقتصاد الكفاية

المؤلف : ديان كوييل

عدد صفحات الكتاب : 350

تاريخ النشر : 2011

– ملخص الكتاب ..

– الأزمة المستمرة ..

سؤال لا بد أن تسأله وتجيب عنه، ليس فقط الدول، بل والأفراد أيضًا، ويواجهون به أنفسهم: هل نحن حقًا أمناء على مستقبل الأجيال القادمة؟

تواجه الأنظمة الاقتصادية الرائدة في الوقت الراهن العديد من الأزمات على مختلف الأصعدة؛ فهناك: الأزمة المالية الحادة، والتفاوت الطبقي الاجتماعي الذي بلغ مداه، ولم يُرَ له مثيل منذ قرنٍ مضى، مما أدى إلى فقدان الثقة في الحكومات ورجال المال والأعمال، ثم هناك ما هو أسوأ؛ أعني التغير المناخي، تلك الأزمة التي تهدد الكرة الأرضية كاملةً وتعدها بالهلاك. وفي الوقت ذاته، نجد العديد من المجتمعات يندم أفرادها على أنهم سمحوا لشهواتهم الاستهلاكية التي جرفتهم إليها الحياة العصرية بمستحدثاتها المتلاحقة والمتسارعة، أن تبتلعهم وتستحوذ عليهم دون الانتباه إلى المستقبل.

إن المشكلة الرئيسية، أو لِنَقُل، الكارثة الحقيقية التي أنتجت لنا هذه الأزمات جميعًا هي عدم الاكتراث بالمستقبل، والمغامرة بمقدَّرات الأجيال القادمة، وعدم وضعهم نصب الأعين، ويتبدى ذلك بوضوح في الطريقة التي تدار بها الأنظمة الاقتصادية. قد تكون معادلة صعبة، ولكنه التحدي الذي لا مفر من مواجهته: كيف يمكننا تحقيق ما نبتغيه اليوم من رخاءٍ مالي واقتصادي دون التضحية بمستقبل أبنائنا، ومجتمعاتنا، بل وبمستقبل كوكبنا الأرضي بأكمله؟ كيف نصل بهم إلى حد الاكتفاء الاقتصادي، أو ما يطلق عليه ”اقتصاديات الكفاية“، وإلى أعلى مستويات الأمان والرفاهية؟ إن تحقيق التقدم والرخاء والنمو الاقتصادي حاضرًا ومستقبلًا يتطلب نطاقًا واسعًا من التغيير في السياسات.

وعلى قمة أولويات ذلك التغيير، لا بد أن يوضع تصور واضح ودقيق للتوقعات الاقتصادية طويلة الأجل، ولإمكانيات ودلائل النمو والتقدم على المدى الزمني الطويل، وذلك عن طريق: العمل على جمع وإعداد إحصائيات رسمية دقيقة عن الثروات القومية وبخاصةٍ الموارد الطبيعية والبشرية، وعلى تشجيع الاستثمار بما يجعل معدلاته تفوق معدلات الاستهلاك، وسعي الحكومات إلى إشراك المواطنين في المناقشات والمشاورات التي تجريها بشأن الآفاق المستقبلية للمجتمعات والتحديات اللازم مواجهتها لبناء المستقبل.

– التحديات ..

1– الرخاء والرفاهية ..

على مدى قرون عديدة ظل الفلاسفة يتدارسون ويبحثون في ماهية السعادة، وخلال القرن الماضي انكبَّ علماء النفس على إجراء التجارب العملية بدلاً من الاعتماد على النظريات المجردة لكي يتوصلوا إلى حقيقة السعادة. أما علماء الاقتصاد، فلم يشاركوا في البحث والنقاش الدائر حول ماهية السعادة إلا في السنوات العشر الماضية فحسب، في محاولة للإجابة عن التساؤلات التالية: لماذا يعد تحقيق الرخاء والرفاهية للمواطنين نقطة الانطلاق لتحسين الأداء الاقتصادي والدفع بعجلة التقدم في الأنظمة الاقتصادية الحديثة؟ وكيف يمكن لعلم الاقتصاد أن يساهم بفعالية في هذا الشأن؟

الإجابة عن التساؤل الأول: أن كل مجتمع من مجتمعات العالم الحديث يركز جهوده على تحقيق النمو الاقتصادي، وإن تفاوتت درجات النجاح في تحقيق ذلك الهدف، وأن الدور الرئيسي للحكومات هو توفير المزيد من الرخاء والرفاهية لمواطنيها، وجعلهم أكثر ثراءً، بل إن الحكومات في واقع الأمر ترى أن المفتاح السحري الذي يضمن لها بقاءها في السلطة هو العمل على إرضاء المواطنين، الذي يتحقق بدوره بالعمل على توفير المزيد من فرص الثراء لهم، إلا أنه ظهرت أصوات تعارض هذه الادعاءات والافتراضات المسلم بها؛ ففي أكثر الدول ثراءً، أصبح هناك اتجاه متنامٍ نحو إعادة النظر في المبدأ القائل بأن النمو والازدهار الاقتصادي هو الهدف الرئيسي الذي تقوم عليه السياسات الحكومية، وصارت صلاحية ذلك المبدأ محل شك ومثارًا للجدل والخلاف؛ فقد أصيب الأفراد، وبخاصة في الدول الغربية، بحالة من التخمة الاستهلاكية والنفور من الترف الزائد؛ فعندما تزول الأزمات المالية وتستقر الأوضاع الاقتصادية ويسود الرخاء والازدهار والانتعاش الاقتصادي، يكون أفراد المجتمعات في حالٍ من الرفاهية تتيح لهم إمكانية التوغل داخل ذواتهم، واستبطان نفوسهم، وتبين مكنونها من دوافع ومشاعر وأفكار، والبحث والتساؤل عن القاعدة الأخلاقية التي تقوم عليها الأنظمة الاقتصادية، وحتى عندما نأتي إلى أوضاع الدول الفقيرة التي هي في أمسِّ الحاجة دائمًا إلى النمو الاقتصادي، نجد أن البعض يرى أن ذلك النمو يأتي على حساب أشياء أخرى حيث يؤثر سلبًا على العادات والتقاليد والثقافات المتوارثة، أو يجلب معه الفساد السياسي والاجتماعي.

ولعل ذلك يدفعنا بقوة إلى العودة بضع سنوات إلى الوراء حيث الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة التي دفعت العديد من المحللين والمفسرين إلى البحث في مدى فعالية وضع النمو الاقتصادي هدفًا رئيسيًا تُبنى عليه سياسات الدول؛ حيث انتقدوا التسليم بفكرة أنه ما دام إجمالي الناتج المحلي الفعلي في حالة نمو فإن الرفاهية والرخاء والسعادة وجميع رغبات المواطنين ممكنة التحقق.

إلا أن مناهضة النزعة الاستهلاكية العارمة التي استحوذت على الأفراد صارت لدى البعض قضية أخلاقية، في حين صارت لدى آخرين أشبه بصيحة (موضة) جديدة، بل إن تباهي أصحاب الثراء الفاحش بثرائهم أصبح من المنظور السياسي تهمة على اعتبار أن هؤلاء الأثرياء بنزعاتهم الاستهلاكية الفاحشة يتسببون في حدوث الكساد والركود الاقتصادي. في العديد من المجتمعات نجد أن الثقافة السائدة تملي عليهم فلسفة مفادها أن ”المال لا يجلب السعادة، بل ربما يجلب البؤس والشقاء“، بل إن علماء الاقتصاد أنفسهم يتدارسون ويبحثون حاليًا عن إجابة للسؤال التالي: هل الدخول العالية الناتجة عن الازدهار الاقتصادي تحقق السعادة لأصحاب هذه الدخول؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فما إذن الذي يحقق السعادة لأفراد المجتمع، وكيف يمكن للسياسات الاقتصادية أن تساهم في تحقيقها؟

إذن، التحدي الذي يواجه الحكومات يكمن في تحقيق النمو الاقتصادي باعتباره هدفًا من الأهداف الحيوية، مع ضمان استمرار ذلك النمو مستقبلاً دون أن يؤثر سلبًا على باقي الأهداف الحيوية الأخرى، وهو ما يطلق عليه ”الاستدامة“.

بعبارة أخرى: التحدي الذي يواجه الحكومات يتلخص في المعادلة التالية:

السعادة = قيمة إنسانية وشعورا طبيعيا +الظروف التي تفرضها عليك ظروف حياتك + الأنشطة التى تؤديها بمحض إرادتك وإختيارك الحر

2– الطبيعة ..

يرى العديد من الناس أن التغير المناخي هو الكارثة الكبرى التي تهدد نمط حياتنا، بل وتهدد حياتنا ذاتها، وغالبية الحكومات تطبق بالفعل سياسات مختلفة للحد من التأثيرات البيئية السلبية الناجمة عن التغير المناخي، ولكن ضغط المتطلبات المجتمعية الملحَّة التي تصر على الاستمرار في السياسات التي تدفع بعجلة النمو الاقتصادي قدمًا، تجعل من الصعب على الحكومات أن تتوسع في تطبيق هذه السياسات البيئية بما يضمن تقليص هذه التأثيرات إلى أدنى حدٍّ ممكن، ومما يزيد الأمر صعوبة وجود المعارضة السياسية التي تعارض بقوة السياسات البيئية الحكومية، والأمر لا يتوقف عند الانقسامات السياسية الداخلية بين من يعرقلون النمو والتطور، وبين من لا يؤمنون بوجود كارثة حقيقية تهدد البيئة، بل تمتد لتشمل الانقسامات السياسية بين الدول الفقيرة والدول الغنية، يضاف إلى ذلك الأغلبية الصامتة التي لا تملك آراءً علمية سديدة بشأن التغير المناخي، ومن ثم، لا تدرك حجم الكارثة ومدى حتمية التصدي لها بكل السبل وبكل التضحيات الممكنة.

– ما السبيل للخروج من هذا المأذق ؟

على صانعي القرارات المتعلقة بالاستهلاك أو بالموارد الطبيعية أن يمدوا الإطار الزمني الذي يضعونه لتنفيذ هذه القرارات، وأن يأخذوا بمعيار جديد لوضع السياسات الحكومية، وهو المعيار الذي لا بد أن يوفر للأجيال القادمة السعادة والرفاهية الاجتماعية، وأولى الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك هي قياس حجم وقيمة الثروات، وإجمالي الناتج المحلي أو الدخل شاملاً الثروات الطبيعية. أما الخطوات التالية فسيساعد على إنجازها إعطاء مدى زمني أطوللإفساح المجال لتقريب وجهات النظر المتضاربة ورأب الصدع بين الانقسامات الداخلية والخارجية.

– الادخار فى الموارد الطبيعية وتقليل الانفاق الاستهلاكي ..

إن أفضل إرث نتركه للأجيال القادمة ونعمل جاهدين على ادخاره واستثماره من أجلهم هو الموارد الطبيعية أو الثروة البيئية التي تملكها دول العالم، فهي التي تضمن استدامة النمو الاقتصادي؛ فكل ما ندخره اليوم سيضمن للأجيال القادمة، على الأقل، موردًا ماليًا بنفس القيمة التي ورثناها نحن من الأجيال الماضية، وبخاصة تلك المتمثلة في الثروات الطبيعية.

والسؤال الآن هو: ماذا يعني أن نترك للجيل القادم على الأقل أموالاً وموارد مالية تعادل نفس القيمة التي ورثناها عن الجيل السابق لنا؟ وكيف يمكن قياس حجم وقيمة الثروات الطبيعية؟ وكيف يمكن استثمارها وحسن استغلالها على النحو الذي يضمن للأجيال القادمة استدامة الازدهار الاقتصادي؟ الواقع أن حساب قيمة الثروات الطبيعية ليس بالأمر اليسير لأن الأسواق تبخس قيمة العديد من الثروات الطبيعية؛ حيث يوجد العديد من العوامل الخارجية التي تضع العراقيل أمام حقوق الانتفاع بالموارد الطبيعية، والفاتورة لا تتحملها إلا الشعوب، وبخاصة الأجيال القادمة! وهذا يعني أن الثروات الطبيعية، مثل الثروة السمكية، المتروكة في البحار والمحيطات دون حسن استغلال أو استثمار، ستنفد من فرط النهل منها في ظل انعدام وجود اتفاقات مشتركة أو أفراد مسؤولة تتحمل أمانة هذه الثروات وتتولى رعايتها وتنميتها والحد من استنفادها، الأمر الذي يؤثر سلبًا على نمو اقتصاديات الدول المتقدمة التي دائمًا ما تلهث وراء فرص استغلال الموارد الطبيعية.

إذن، غياب آلية محددة لتقييم الثروات البيئية الطبيعية وإعطاؤها قيمة مالية دقيقة توازي قيمتها الحقيقية، يفاقم المشكلة ويضعنا أمام إشكالية مزدوجة الجانب: فمن ناحية، هذه الثروات تستهلك بلا حساب إلى حدٍّ سيؤدي بها إلى النفاد، ومن ناحية أخرى، نحن عاجزون عن إيجاد آلية ميسرة لتحديد حجم وقيمة هذه الثروات تحديدًا دقيقًا.

الحل في يد المؤسسات؛ ونعني هنا بالمؤسسات: الأسواق من جانب، والهيكل التنظيمي الحكومي والسياسي من الجانب الآخر؛ فهي المنوط بها مسؤولية التصدي لذلك التحدي.

3– الأجيال القادمة ..

عاشت أجيال ما بعد الحرب العالمية فترة الحرب الباردة وخاضت تجربة العيش في ظل مشاعر الرعب من الإبادة بفعل الأسلحة النووية، الأمر الذي علمهم كيف يضمنون لأنفسهم الأمن والأمان، وبخاصة الأمن الاقتصادي وذلك عن طريق الاعتماد على الموارد الطبيعية مثل الطاقة الناتجة عن الكربون، دون إحداث تأثيرات بيئية سلبية يصعب معالجتها باستخدام آليات السوق المتعارف عليها، وقد تأثرت هذه الأجيال أيضًا بمبادئ ”بسمارك“، المستشار ورئيس الوزراء الألماني في فترة الثمانينيات من القرن التاسع عشر، عن الضمان الاجتماعي، حيث وضع في عهده أول نظام للتأمين الاجتماعي، الذي يوفر المعاشات للمتقاعدين، وقد اتسع نطاق انتشار هذه المبادئ بعد انتهاء . الحرب العالمية الثانية في عام 1945 والحقيقة الواضحة الآن هي أننا تعدينا وما زلنا نتعدى بلا حساب على نصيب الأجيال القادمة من الموارد والثروات الطبيعية والبشرية بحيث لم يعد من الممكن القول بأن الأجيال القادمة ستكون أفضل حالاً منا، فنحن لم نستنفد فقط ما يجب تركه لهم، بل سنورثهم أوضاعًا ومستويات معيشية أكثر سوءًا، وديونًا طائلة، وتغيرات بيئية لا يُعرَف مداها.

أما عن الديون، فهي مؤشر يعني أن الالتزامات المالية والاجتماعية استنفدت كل الموارد المخصصة لها إلى الحد الذي دفع إلى الاستدانة، الأمر الذي تحول إلى أزمة مالية أدت إلى تفاقم مديونيات الغالبية العظمى من حكومات الدول صاحبة الأنظمة الاقتصادية الرائدة. إلا أن هذه الديون كانت أشبه بجبل الجليد المختفي تحت سطح مياهٍ عميقة لا يظهر منه سوى قمته؛ فعبء الدين مضاعف، إذ إن هذه الحكومات عجزت أيضًا عن الوفاء بوعودها بدفع المعاشات والتأمين الصحي وغيرهما من المزايا للمتقاعدين والعاجزين عن العمل، وهي المنوط بها مهمة الرفع من مستوى معيشة مواطنيها، وخصوصًا كبار السن والمتقاعدين، ولكن ليس عن طريق الاقتراض، بل من إيرادات الضرائب الجارية، ولكن التغير الديموجرافي يجعل ذلك أمرًا مستحيلاً.

مما سبق يتضح أن لإشكالية العجز عن استمرار النمو الاقتصادي بُعدين: استنفاد الموارد البيئية والثروات الطبيعية، والتعدي على نصيب الأجيال القادمة من هذه الموارد والثروات بما يحملهم عبء الديون الهائلة الحالية والمستقبلية، وهذا يعني أن الأجيال الحالية في الدول الغنية تعيش في مستوى أعلى كثيرًا من إمكاناتها، وكذلك سيكون الحال بالنسبة إلى الأجيال المستقبلية، الأمر الذي يقتضي اتجاه هذه المجتمعات إلى العمل على زيادة الادخار وتقليل الإنفاق؛ فالإفراط في الاستهلاك، وعدم الاقتصاد في النفقة تحسبًا للمستقبل، كلاهما وجهان لعملة واحدة؛ فاقتصاديات الكفاية تقتضي التعجيل الفوري بالعمل من أجل المستقبل.

4– المساواة ..

هل الشعور بالمساواة والعدل شعور غريزي جُبِل عليه الإنسان، أم أن الأنانية والتصارع طبيعة بشرية؟ ما أحوجنا في هذا العالم إلى سيادة العدل والإنصاف والمساواة، عدل الفاروق عمر رضي لله عنه القائل: ”العدل أساس الملك“؛ فالتفاوت الحاد في مستوى الدخول ومستوياتالمعيشة وعدم تكافؤ الفرص فيما يسمى التفاوت الطبقي أو الاجتماعي كفيل بتقويض النظام السياسي، والنظام الاقتصادي من حيث معدل النمو الكلي، ومستويات رخاء وازدهار أفراد المجتمع؛ ففي بعض الدول بلغ ”التفاوت الطبقي“ مداه إلى حدٍّ أدى إلى انهيار المجتمع والنظام الاقتصادي، مثلما حدث في ”الولايات المتحدة“ و”المملكة المتحدة“، فقد بلغ السيل الزُّبَى في هذه الدول من أشكال انعدام العدل والمساواة التي تتبدى في حصول المصرفيين على العلاوات والمكافآت والمزايا التي يمنحونها لأنفسهم دون أن تفرض عليها أية ضرائب.

يقول العالم الاقتصادي الشهير ”آدم سميث“ إن التصرفات التي تنم عن العفة والفضيلة والاستقامة إنما تنبع من مكنون نفس أصحابها الذين يتصرفون بتلقائية وفقًا لما تمليه عليهم فطرتهم السليمة دون أن يكونوا مدفوعين بأية حسابات أو اعتبارات أخلاقية، إلا أنه في عالم المال والأعمال والأنظمة الاقتصادية تختلف المعايير والمبادئ والتصرفات والدوافع على نحو يبتعد كثيرًا عن هذه التلقائية وعن هذه النفوس الصافية الغنية بفضائلها الكريمة التي لا شك من بينها العدل والإنصاف والإيثار، إذ لا تسود سوى لغة المصالح الشخصية والأنانية والوصولية، فهي وحدها الدوافع وراء تصرفات الأفراد.

العديد من علوم الاقتصاد تسعى إلى معرفة العائد المجتمعي الذي يمكن أن يعود من العديد من القرارات الفردية التي تتخذ لتحقيق مصالح فردية أيضًا، من منطق الأنانية، دون اعتبار لمصالح الآخرين، ففي اقتصاديات السوق الحر يمكن في كثير من الأحوال التنبؤ بدقة ما سيحدث، حيث ترتبط قرارات بعض الأفراد والشركات بقرارات شركات أخرى كبرى أو شخصيات مؤثرة اقتصاديًا.

وفي كل الأحوال نجد أن قواعد اللعبة تقتضي دراسة ومراقبة التفاعل بين الأفراد أو المشاركين في اللعبة سواء كانوا متعاونين بعضهم مع البعض الآخر أم لا. الإشكالية الرئيسية هنا ليست في وجود مجموعة من الأفراد تسعى إلى مصالحها الشخصية، وإنما تكمن في أن أصحاب المصالح في هذا العالم يبررون مصالحهم الشخصية بأنها السعي إلى المصلحة العامة التي تقوم على الأمانة وحب الإيثار!

– ضرورة تحديد قياسات دقيقة للموارد والثروات الطبيعية ..

الأمر يبدأ برصد أوضاع المجتمع البشري والبيئة الطبيعية، وجمع البيانات والمعلومات اللازمة عن مجتمعاتنا وأنظمتنا الاقتصادية، ثم تحليلها، ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة بناء على هذه التحليلات. ولا شك أن تكنولوجيا المعلومات، والبرمجيات، وقواعد البيانات المتاحة عبر شبكة الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي تيسر هذه المهمة.

وللقياسات جوانب عديدة: قياس إجمالي الناتج المحلي، بقياس تدفق الدخل الاقتصادي السنوي، بالاعتماد على عدد هائل من الإحصائيات التي تمكن من قياس مستويات التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

النمو الاقتصادي أمر ضروري لضمان الرعاية الاجتماعية وتحقيق الرخاء والرفاهية لأفراد المجتمع، ولكن هناك أشياء أخرى لا تقل أهمية في هذا الشأن، يجب على الحكومات أن ترصدها أيضًا. إلا أن الطريقة التي يقاس بها إجمالي الناتج المحلي لا تتماشى مع الطبيعة المتغيرة للأنظمة الاقتصادية، ولا مع عناصر النمو الاقتصادي غير الملموسة؛ ومن ثم، يجب لكي تكون القياسات دقيقة أن تشمل الأنشطة التي تُجرى خارج نطاق اقتصاد السوق (الاقتصاد الحر) مثل الأنشطة الناشئة عن مختلف أنواع العمل من المنزل.

ولا بد أن يدخل قياس قيمة الثروات بشتى أشكالها الثروات الطبيعية ورأس المال البشري والاجتماعي، والأموال ضمن قياس إجمالي الدخل؛ فالميزانية العمومية تكون على نفس الدرجة من الأهمية مثل التغيرات السنوية.

وهنا تظهر أهمية دور خبراء الاقتصاد والإحصاء، حيث يجب أن تنصب جهود الإحصائيين على جمع البيانات وإعداد إحصائيات دقيقة وحديثة، وأن ينكب الاقتصاديون على إعداد الأبحاث والدراسات التي تشرح المفهوم الشامل للثروة وعناصرها، لما لهذه الدراسات والأبحاث والإحصائيات من أهمية قصوى في صناعة القرار السياسي والاقتصادي، وتقدير قيمة المعاشات والإعانات والخدمات الاجتماعية المستقبلية، وتقدير إنتاجية الخدمات والأصول المعنوية (مثل الشهرة والاسم التجاري للمؤسسات).

– بناء علية :

— يجب تركيز الاهتمام على تخصيص المزيد من الأموال للإنفاق على الأبحاث والدراسات الإحصائية التي تحمل أفكارًا مبتكرة لأساليب جمع بيانات ومعلومات دقيقة عن الثروات الشاملة بكل أشكالها، وأساليب إعطاء تقديرات دقيقة لقيمة الأصول المعنوية؛

— وإلى أن تتوافر هذه الحسابات الدقيقة للثروة الشاملة، يجب أن تضع الحكومات، بالتشاور بين جهاتها ومسؤوليها، مجموعة واسعة النطاق من المعايير لقياس النمو والتقدم الاقتصادي؛

— يجب أن ينشر ما تم التوصل إليه من تقديرات صحيحة لعبء الديون الحكومية شاملة المعاشات والإعانات والخدمات الاجتماعية المستقبلية التي تدخل ضمن الالتزامات والأعباء الواقعة على عاتق الحكومات.

– العناصر التى يجب أن تخضع للقياس والتقييم ..

يجب أن نحدد الأشياء التي يجب تقييمها في إطار النظم الاقتصادية التي يخضع هيكلها وبنيتها لتغييرات جوهرية، ذلك لأن القياسات الدقيقة في حد ذاتها ليست هي التي ستؤدي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والوصول بالمجتمعات إلى الرخاء والازدهار.

والسؤال هنا: ما المؤشرات المختلفة التي يجب على واضعي السياسات أن يركزوا اهتمامهم عليها؟ وكيف يقيمون وحدات القياس؟ كانت ”الأسواق“ إلى عهد قريب تعتبر أهم معيار للتقييم، حيث تعكس بصورة آلية المعلومات والحقائق الاقتصادية، واختيارات الأفراد التي يتم على أساسها جميعًا الموازنة بين العرض والطلب؛ وقد وصف ”آدم سميث“ السوق باعتباره معيارًا للتقييم ب”اليد الخفية“.

على مدى السنوات العشرين التي تلت الحرب الباردة وسقوط الشيوعية، كانت آليات السوق بالنسبة إلى جيل هذه الفترة هي الأداة الواضحة التي تضمن لهم تسيير الأوضاع الاقتصادية بأمان، ولم تكن مسألة القيمة والتقييم مثارة في ذلك الوقت.

لأسباب معروفة، هدأت بمضي الزمن الخلافات الأيديولوجية التي كانت قائمة بين الشيوعية والرأسمالية؛ ففي غالبية الدول اعتمدت الأحزاب السياسية على كفاءاتها واختصاصاتها بدلاً من أيديولوجياتها للاستمرار في العمل السياسي.

ومن ثم ساد هذه الفترة استقرا